من أعماق الفراغ

هل سبق أن شعرت بذلك من قبل ؟

نعم أنا أسألك أنت ، هل سبق أن مرت عليك فترة من الركود شعرت فيها بأن كل ما تفعله بلا قيمة ولن يصل إلى أي نتيجة مهما بذلت فيه من جهد ؟

لا أدري إن حصل معك هذا أم لا ، ولكنه بالتأكيد حدث معي .

هل تسأل كيف ذلك ؟

حسنا سأحاول بطريقة ما أن أوصل إليك الفكرة لتفهمها ، أرأيت عندما تقف في القطب الشمالي ـ أو الجنوبي لست متأكدة من هذا حقا لكنه ليس مهما على أي حال ـ فقط أنت تقف هناك وتحيط بك مساحات شاسعة من اللون الأبيض من كل الاتجاهات أرأيت ذلك ؟ كيف سيكون شعورك حينها ؟

مهلا ، أنت لم يسبق لك الذهاب للقطب الشمالي !؟ ولا سبق لك مغادرة دولتك من قبل ؟

حسنا من يهتم ـ في الواقع هذا جزء من الأمر بالفعل ـ ،  حتى ولو لم يغادر جسمك المادي تلك الحدود الوهمية التي تفرق بين البشر في حين يجب أن يكونوا متحدين ، فلا بد وأن جسمك الروحي قد عبر من خلالها جميعا وزار بالفعل كل البلدان التي خطرت على بالك وحتى تلك الأماكن التي لن تجدها في هذا العالم بل أنت نسجتها في خيالك لتضفي بعض الإثارة على رحلاتك الوهمية ، ولابد أنك مررت ولو لمرة على الأقل بالقطب الجنوبي ـ أو الشمالي فليس هناك فرق ـ ورأيت تلك الأراضي البيضاء الممتدة على طول البصر ، أتراها الآن ؟ الأمر كله متعلق بالخيال فهو أشبه بوحش جامح ليس له قيود ، تقوده غرائزه لأي مكان وكل مكان .

إذا لنكمل ، أنت تقف هناك وسط اللون الأبيض ـ حرفيا ـ وتتلفت حولك فلا ترى إلا مزيدا من اللون الأبيض ، إذن ما شعورك الآن ؟

هل الأمر مثير ؟ جديا ؟ هل أنت بالفعل تشعر بالحماس ؟

ربما لأن الأمر جديد عليك ولأنها مرتك الأولى في هذا المكان ، كل شيء جديد يُشعر المرء بإثارة التغيير ، تلك الوخزة التي تشعر بها في صدرك والتي تخبرك بأن هذا أمر غير اعتيادي ، إنه شيء لم يسبق لك فعله .

لكن إلى متى سيستمر هذا الشعور ؟ مهما كانت مدته فهو حتما سيتلاشى في النهاية كحال كل الأشياء في العالم ، وبعدها ماذا يبقى لك ؟ شعور رتيب بالملل والروتين يعتليك تدريجيا حتى ينقلب إحساسك لشعور مغاير تماما ، ماهو عكس الحماسة ؟ إنها حتما الملل .

مهما مشيت ومشيت ومشيت ، سيبقى كل شيء أبيض ، حتى أنك تكاد تكره اللون الأبيض ، إنه لون جميل ، لون السلام والنقاء والصفاء ... إلى آخره من كل ماهو جميل نقي صاف وهادئ ، هذا صحيح بالفعل ، ولكن اللون الأبيض وحده وباستمرار سيكون مضرا أيضا ، لم يلجأ الناس للحروب في رأيك ؟ هل سألت نفسك هذا السؤال من قبل ؟

ببساطة لأن كثرة السلام تصيبك بالركود ، بالملل ، لابد أن يكون هناك شيء يعكر صفو الهدوء ، وإلا فكيف ستشعر بقيمة السلام الذي أنت فيه إن لم تجرب طعم الحرب ! وكيف سيستطيع الناس حمل شعارات تنادي بالسلام إن كان السلام يعم المكان طوال الوقت ؟

لكل شيء طعم مختلف ، والبشر بطبعهم طماعون يحبون تذوق كل شيء مهما كان طعمه ، فالفضول الذي قتل القط ، هو في الواقع يقتل البشر وليس القطط .

بعيدا عن كل هذه الأفكار الواسعة والعميقة ، نعود فقط إليك وأنت ماتزال واقفا في مكانك ، وقد ذقت ذرعا باللون الأبيض ، وكل ما يترتب عن اللون الأبيض أو ينتج عنه اللون الأبيض ، في هذه اللحظة بالضبط قد توقف الزمن عن التقدم وتوقفت الأرض عن الدوران ، وتوقف كل ما في الكون عن الحركة ، وتوقفت أنت حيث أنت ، وستبقى حيث أنت،لأنك أنت بالفعل قد أصبحت في حالة ركود ، مهما فعلت ومهما ستفعل لن يكون له طعم ، لأن اللون الأبيض انتقل من محيطك ليغلف جسدك من الداخل ويزحف إلى عقلك معطلا كل خلية كانت في لحظة ناشطة تعمل بأقصى طاقتها ، ماكنت تستمتع به من قبل لسبب ما لم يعد يمنح المتعة نفسها ، فأنت قد استنزفت كل قطرة متعة فيه بالفعل ولم يعد له ما يمنحه ،  وماكنت تتطلع إليه من خيالات براقة متلألأة تلاشى وتبخر في الفضاء تاركا خلفه فراغا أبيض ولم يعد يثير فيك الحماس نفسه الذي كان يدغدغ قلبك من قبل ففي هذه اللحظة أنت أيقنت بالفعل أن الخيال سيبقى خيالا وأنك مهما واصلت تطلعك الشغوف إليه فلن يحيله واقعا ، وسيبقى مجرد خيال يتراقص في الأفق ، يمنح فقط بعض الشعاع الوهمي ، يُغرس في قلبك كإبر وهدفها الوحيد هو منحك ذلك الألم الذي لن ينتج عنه شيء .

تلك هي اللحظة حين تصبح الحياة وكل ما فيها بلا معنى ، لاشيء في متناول يديك يمنحك المتعة التي تبحث عنها ، و لم تعد هناك فائدة من تأملك لأشياء بتّ واثقا من أنك مطلقا لن تبلغها .

إذن ما العمل ؟

حسنا هذا سؤال يجب أن تجد جوابه بنفسك ، فأنت لست أنا ، وأنا حتما لن أجيبك عن شيء متعلق بك ، وفي الحقيقة فأنا نفسي لم أجد الجواب الذي يخصني أنا . لذا فلنفترق في هذه اللحظة كل في طريقه ليجد الجواب الذي يريح نفسه وينثر بعض الألوان على صفحته البيضاء الراكدة .

إذا هل وصلتك الفكرة ؟ هل سبق أن مررت بهذا الشعور من قبل ؟ هل سبق وأن وجدت نفسك عالقا ولا تجد الحل ؟

ماذا ؟ أنت لم تستوعب الأمر بعد ؟ أتقول أن كل ما قرأته كان مجرد ثرثرة فارغة غير مترابطة ولا تحمل أي معنى ؟ أهذا ما تقوله ؟ ليس هناك أي فائدة مما قيل حتى الأن ؟ أنا لم أستطع أن أوصل لك المغزى من كل كلامي ؟

إذا تهانيّ فلقد فهمت الأمر بالفعل ، إنه تماما كما قلت مجرد هراء بلا قيمة ولافائدة ترجى منه ، هذا ما أمر به حاليا ، وأتمنى إن لم تشعر به من قبل ، ألا تجربه أبدا فشعور الضياع ليس شعورا جميلا قد ترغب في الحصول عليه ، إلا إذا كنت فضوليا تريد تذوق كل ما تطاله يدك مهما كان طعمه ، فأنت حرّ .